فن

Longlegs: فيلم عاثر بين عالمين

قدم «Longlegs» نفسه كفيلم يحاول أن يكون كل شيء، أن ينال العلامة الكاملة في جونرتين تمتلكان قوانين متناقضة، فهل نجح في ذلك؟

future الممثلة الأمريكية مايكا مونرو من فيلم «Longlegs»

حملة تسويق عالمية بإيقاع قلب لاهث

في منتصف شهر يوليو 2024، تجهزت دور العرض المصرية للإعلان عن فيلم الإثارة والرعب الأمريكي Longlegs، بحملة دعائية ضخمة وفريدة في مضمونها.

تعتمد الحملة على عرض مقطع تشويقي من الفيلم، موسيقاه التصويرية ليست عادية، إنما مرتجلة بالكامل من دقات قلب البطلة مايكا مونرو، التي تسارعت بجنون حقيقي وغير تمثيلي، تأثُّراً بأداء النجم نيكولاس كيدج عندما رأته لأول مرة في شخصية المجرم ذي السيقان الطويلة أو Longlegs.

مشهد من وسائط التواصل الاجتماعي

تبدو الدعاية من ذلك النوع في مصر مبالغاً فيها، لكنها ليست إلا امتداداً لحملة الدعاية العالمية التي دشنتها شركة NEON منتجة الفيلم، والتي برزت في الأعوام الأخيرة بإنتاجات مستقلة ناجحة وأوسكارية، مثل Parasite وAnatomy of a Fall.

يدور فيلم Longlegs حول قاتل متسلسل يستهدف عائلات كاملة في ولاية أوريجون بجرائم إبادية لا تخلف ناجياً واحداً، ولا تترك أثراً سوى رسائل مرمزة بلغة مشفرة تحمل توقيع ذي السيقان الطويلة، يستمر هذا الجنون ثلاثة عقود متصلة، حتى تستعين الإف بي آي بالعميلة الشابة لي هاركر لاصطياده.

ذلك الملخص كان كافياً لتعد شركة NEON جمهور السينما بعمل يشبه الفيلم الأيقوني صمت الحملان، الذي يدور حول القصة نفسها لعميلة فيدرالية تطارد قاتلاً متسلسلاً، وفيلم زودياك لديفيد فينشر عن السفاح الشهير الذي يترك خلفه رسائل مشفرة بتوقيعه الساخر.

وعدت NEON بفيلم يحمل الحمض النووي لتلك التحف السينمائية، لكنه يتفوق عليها بجانبه المرعب الخوارقي، أو بتعبير بعض النقاد؛ كأنك تشاهد تلك الأفلام السابقة وهي تخرج من دبر الشيطان مكسوة بلعناته؛ لينتج عن هذا المزيج ما وصفه المروجون بما سيكون أهم فيلم رعب في العقد الأخير.

بعد حملة تسويقية ضخمة وصلت لتدشين شركة NEON موقعاً إلكترونياً احتفائياً بفكرة الفيلم، مع رقم لخط هاتف يمكنك عبره سماع صوت نيكولاس كيدج وهو يؤدي الشخصية، أثمر الأمر بتحقيق NEON بفيلم longlegs أكبر افتتاحية في تاريخ أفلامها بشباك التذاكر، افتتاحية تجاوزت إيراداتها 22.6 مليون دولار وهو أكثر من ضعف ميزانية الفيلم، مع وعود بأرباح أكثر جموحاً في الأشهر القادمة.

نجح longlegs في تحقيق أهدافه الترويجية كاملة بمجرد وصوله إلى دور العرض المحلية والعالمية، ولكن هل نجح الفيلم في الوفاء بوعوده السينمائية التي قدمتها حملة ترويجه؟

عمل فني بساقين طويلتين

«حسناً أنت نحيفة وضعيفة

تظهر على جسدك أسنان هيدرا

أنت قذرة وحلوة

أنت فتاتي».

— Get It On (Bang a Gong)-1971

يبدأ فيلم Longlegs بمقطع مكتوب من أغنية Get It On الشهيرة لفريق الروك البريطاني تي-ريكس، الذي وصل إلى أوج شهرته في سبعينيات القرن الماضي.

يقدم بعدها المخرج أوز بيركنز في مربع صغير من الشاشة ما يبدو كذكرى طفولية، لطفلة تجد سيارة رابضة في الثلوج أمام منزلها، تخرج لاستكشافها لتجد رجلاً غريباً، لا يكفي الكادر الصغير لإبراز جسده بأكمله فيبدو وجهه مخفياً، بينما نركز مع نصفه السفلي وتحديداً ساقيه الطويلتين، نراه عملاقاً من منظور الطفلة، نوقن بذلك أننا نرى الذكرى بعيون صاحبتها الطفوليتين. يقدم الرجل المريب نفسه باسم Longlegs، والذي جاء لأن الطفلة حلت ذكرى ميلادها.

مشهد من فيلم «Longlegs»

ننتقل بالزمن في قطع مباشر لنجد عميلة الإف بي آي، لي هاركر، تتلقى ملخص قضية القاتل المتسلسل Longlegs الذي حير السلطات على مدى ثلاثين عاماً.

ما يثير الرعب في جرائم القاتل أنها كلها تدور حول عائلات مسالمة، منتظمة لسنوات في حضور قداس الكنيسة، وخلق علاقات ودية مع الجيران، لكن فجأة ينتاب الأب في كل عائلة الجنون ليقتل أفراد أسرته ثم يقتل نفسه.

يخلو مسرح الجريمة كل مرة من أي أثر لقاتل آخر، فقط رسائل مشفرة من Longlegs، تخبرهم بأنه المسئول عن تلك المذبحة بصورة أو بأخرى، وأن الآباء ليسوا إلا دُمًى تنفذ المذبحة لا أكثر.

يؤطر الفيلم نفسه من البداية بورطة عنوانه، عمل فني بساقين طويلتين، عالق بين عالمين، لكلٍّ منهما قانونه.

عالم التشويق والجريمة بأفلام مثل صمت الحملان وزودياك، والتي تعتمد رغم قسوتها ودمويتها على قوانين عالمنا، مجرم ذكي ومحقق أذكى ومطاردة نفسية لا تخرج عن قواعد المنطق.

مشهد من فيلم «Silence Of Lambs»

أمام تلك الساق يقدم Longlegs في سيره ساقاً أخرى، وهي عالم الرعب والخوارقيات، ندرك من البداية أن الآباء يتعرضون لاستحواذ شيطاني، مس من الجنون لا يعتمد على منطق أو حيلة، يجعلهم يستمعون لإيعاز Longlegs، فينقلب الأب أو رمز الأمان في الأسرة إلى التهديد الأعظم بفنائها.

تجسد العميلة لي هاركر ذلك الهجين بين عالمين سينمائيين لكل منهما قانونه، فهي حسب وصف رؤسائها: «نصف محققة ميدانية، نصف وسيطة روحانية».

في بداية الفيلم تشير إلى منزل بعينه باعتباره مسرح الجريمة، لا تقدم أي تفسير لاكتشافها، تخبر شريكها أنها تعمل وفق حدسها، يسخر الأخير من الأمر، لكنه يذهب لتفحص المنزل لتستقبله رصاصة في رأسه، يوقن جهاز التحقيقات الفيدرالي أن حدس عميلته صائب وإن خلا من المنطق.

يستسلم الإف بي آي ويترك زمام التحقيق لوسيطة روحانية في ثوب المحقق بعد أكثر من 30 عاماً من العجز التام عن الإيقاع بالسفاح Longlegs أو فهم علاقته بتلك الجرائم.

عندما تتولى لي التحقيق يخرج فجأة السفاح من سباته، ويقوم بفورة جرائم تعلن عن حضوره، كأنه يبادل خطوة تولي لي التحقيق بخطوة مرحبة، ليعلن ميلاد رقصة دموية بين الطرفين، المحققة والقاتل.

لا نحتاج الكثير من الفطنة لربط مشهد البداية بالحبكة، فالعميلة لي كانت طفلة مشهد البداية، قابلت Longlegs في طفولتها، ولكنها نجت وأسرتها بطريقة ما، ليتحول التحقيق إلى رقصة مرتجلة على موسيقى الروك بينها وبين القاتل، تصير كلمات أغنية الروك التي صدَّرها صانع الفيلم في الافتتاحية أكثر وضوحاً.

مشهد من «Longlegs»

لي باركر ليست سوى فتاة نحيفة وضعيفة، تظهر على جسدها مخالب وبصمات السفاح Longlegs من ماضيها الطفولي، وهذا يجعلها ملعونة بقدرتها على وصاله وفهمه، بمهارة لا تنبع من براعتها كمحققة، إنما لكونها فتاته، التي وصمها منذ عقود، واستدعاها بإرادته إلى اللعبة. يؤسس الفيلم لجونراته وعالمه، لكن هل يمكن لعمل فني بساقين طويلتين ومتناقضتين أن يسير طويلاً؟

بين صمت حملان مشوق ورعب صاخب على أنغام الروك

يعتمد فيلم صمت الحملان الأيقوني على ثيمة صوتية منحته اسمه، وهي الصمت، الذي يحضر كبطل ثالث في لقاء القاتل المدان هانيبال ليكتر بالعميلة كلاريس ستارلينغ، يعتمد الفيلم برمته على لعبة فراسة ومبارزة عقول صامتة، لا تسعف الكلمات لمواكبتها والتعبير عنها.

لا يقدم صمت الحملان نفسه كفيلم رعب، إنما يستديم غموضه مثل أي لغز بوليسي باستدامة اللغز، حتى نصل للحظة التنوير عندما يساعد هانيبال من زنزانته المحققة كلاريس على الوصول إلى قاتلها الطليق.

بينما يعتمد Longlegs ثيمة صوتية مختلفة، وهي موسيقى Glam Rock التي يصفها البعض بالشيطانية، والتي تستهوى السفاح Longlegs، ليستعير منها المخرج اقتباس البداية الذي يؤطر علاقة القاتل بالمحققة. يستعير المخرج أوز بيركنز كذلك بنية سرده من الروك، فيقدم فيلم رعب إيقاعي من ثلاثة فصول متصاعدة مثل نغمات الروك. لكل فصل بداية ووسط ونهاية وإعلان لفصل جديد باسم جديد مثل النوتة الموسيقية.

مشهدَيْ من فيلم «Longlegs»

رغم اختلاف البصمة الصوتية بين الفيلمين، فإن المشكلة الكبرى تكمن في قدرة Longlegs على استدامة الغموض بشكل بوليسي رغم حبكته المرعبة.

تفسد الحبكة المرعبة غموض اللغز البوليسي؛ لأنها تجعلنا ندرك من المشهد الأول كل شيء، ندرك أننا أمام جرائم وحشية دافعها لعنة خوارقية، يقدمها رسول عن الشيطان نفسه وهو Longlegs، لا يوجد قاتل بعينه ننتظر كشف النقاب عنه، ولا يوجد دافع لتفسير الشر لأنه كوني بقدر هوية صانعه، وهو الشيطان، نقيض الإنسان، لا ينتظر أي متلقٍ دافعاً للشيطان لارتكاب الشرور!

يستعير Longlegs كل عناصر التشويق البوليسي والسينمائي، من عوالم صمت الحملان، حد التطابق، محققة أنثوية يرأسها رجل ذكوري، لا يفهم طريقتها الحدسية لكنه يؤمن بالنتائج التي تقدمها، يفتقد Longlegs لأهم عنصر في صمت الحملان، وهو اللغز الذي يُديم بريق الحبكة ويقوي حضور شخوصها.

يثقل فيلم Longlegs نفسه بالتشوش بين رموز أفلام المحققين ورموز أفلام الرعب، تتراص الدمى المرعبة بنظراتها الميتة بجوار رسائل القاتل التي تشبه رسائل سفاح الزودياك برموزه المحيرة.

مشهدين من «Longlegs»

تقف بطلتنا لي هاركر أمام موزاييك من الصور كما يفعل المحققون لتتبع الأدلة، بينما يقدم لها شبح Longlegs الدليل الأهم بحضور شيطاني في منزلها يعوزه المنطق والتمهيد!

ينتقل هذا التشوش بين جونرة الرعب والجريمة، من الرموز والسرد القصصي إلى الصورة نفسها، يقدم المخرج بيركنز في بداية فيلمه كادرات ثابتة تبدو البطلة فيها أسيرة المكان مثل كلاريس في لقاءاتها مع هانيبال ليكتر، وهي كادرات تحضر بكثرة في مشاهد الاستجواب بأفلام المحققين، لكن تجاورها في الفصول التالية كادرات من زوايا مزعجة، كادرات معكوسة أو مقلوبة رأساً على عقب، كادرات تشوه المنظور كما يليق بفيلم رعب، لا يجب أن تصدق فيه أبداً منطق ما تراه.

يبدو الفيلم عالقاً في مسماه، كيان يتخبط بساقين طويلتين دون أن يحسم لأي ساق يمكن أن يستند، في أحد المشاهد تعبر المحققة لي عن هذا التخبط عندما يخبرها رئيسها أن Longlegs يشبه السفاح تشارلز مانسون الذي كوَّن عصابته من أتباع مراهقين، يهمس لهم بجرائمه ويذهبون لتنفيذها، لكنها تخبره أن Longlegs كيان يكاد يكون أثيرياً، يعمل بلا أعوان، يهمس بأوامره كما يهمس الشيطان. ومانسون كان أبسط من ذلك بكثير.

يقدم الفيلم قضية محلولة من اللحظة الأولى مهما اختلفنا على طريقة تقديم الحل، فيتبقى لنا عنصر واحد مشترك بين عوالم الرعب والتحقيق، وهو المطاردة، فالمجرم لا يكف عن مطاردة فرائسه، والشيطان لا يكف عن مطاردة ضحاياه. فهل نجح رعب الشيطان ومطاردته في حمل الفيلم حتى النهاية؟

فيلم يتعثر في ساقيه الطويلتين

تنسحب المطاردة من عالم التحقيق والأدلة الجنائية لتصير مطاردة ثنائية بين Longlegs والعميلة لي هاركر التي تعود إلى ذكريات لقائها الطفولي القديم مع السفاح، لتجد في منزلها بقايا صورة التقطتها له في ذلك اليوم.

يُقبَض على Longlegs بناءً على أوصاف الصورة ليقدم المخرج بيركنز أكثر مشاهد الفيلم قلقاً وتشويقاً في غرفة الاستجواب التي يبدو فيها السفاح أبسط بكثير من هالته وجرائمه.

من فيلم «Longlegs»

مخلوق مخنث، تخفي الأصباغ البيضاء ملامحه، فلا يبدي ذكورة أو أنوثة، كيان مشوه ومسكين، يحمل اسماً بشرياً، دايل كوبل، كيان يمكن أن يبكي وينزف ويموت، لا يبدو دايل مناسباً ليكون الشيطان، لا يبدو سوى خادم له لا أكثر، لذلك لا يمثل سجنه أو قتله نهاية لفورة الجرائم؛ لأن الشيطان سيعود من جديد بإيجاد خادم جديد.

تصف أغنية الروك في بداية الفيلم الفتاة الضحية أو لي بأنها موصومة بأنياب وأسنان هيدرا، وهيدرا ليست سوى وحش ضخم يشبه ثعبان الماء، وحش شيطاني له تسعة رءوس، لو حاولت جز إحداها فسينبت له من العنق المقطوع رأسان.

لا تموت هيدرا، بل تتجدد للأبد لأنها هجين شيطاني ولد من تزاوج تيفون إله الرياح اليوناني وإيكيدنا نصف امرأة ونصف ثعبان، لذلك الهيدرا خالدة.

تستمر اللعنة بخروج Longlegs، أو دايل كوبل، من الصورة، لكن توقن لي هاركر أنها في حضرة الشيطان أو خادمه تبدو أكثر شبهاً به من البشر العاديين، مثلما وجدت كلاريس في تأويل هانيبال ليكتر لحقيقتها طيفاً من مشابهة بينهما.

نعلم جميعاً نهاية صمت الحملان، لكن لا داعي لحرق نهاية Longlegs، يمكن ببعض الموازاة أن يكمل المتلقي الصورة.

بالتدريج يتحول خط الجرائم، وظهور دايل كوبل أو Longlegs العابر إلى ألغاز فرعية تعود ببطء إلى الخلفية، ليتقدم اللغز الرئيسي وهو طفولة لي هاركر نفسها مثلما تحولت الجريمة في صمت الحملان من لغز رئيسي وخطوة لترقي كلاريس مهنياً إلى حبكة فرعية لتتصدر حبكة رئيسية جديدة، وهي مساءلة طفولة كلاريس والصدمة النفسية التي تعرضت لها قديماً، رعب شهدته في طفولتها وجعلها تركض دون النظر إلى الخلف. بينما تصم أذنيها أصوات حملان بريئة كفت عن الثغاء لحلول موعد الذبح.

يقدم المخرج أوز بيركنز التفسيرات دفعة واحدة في الفصل الثالث والأخير من الفيلم بصوت راوٍ يهمس لنا بتهويدة أطفال مخيفة، ما نحتاج أن نعرفه عن الرابط بين طفولة لي هاركر والسفاح Longlegs، تفسيرات مباشرة أفسدت كل البناء الغامض الذي مهد له المخرج في الفصلين السابقين. أو على حد تعبير ناقدة الغارديان، Wendy Ide، قدَّم لنا بيركنز واحدة من أكثر نهايات أفلام الرعب Anticlimactic أو قتلاً للذروة.

لا يبدو التناقض مفاجئاً بين فيلم رعب نجح في توظيف كل أدواته لخلق مناخ متوتر يعد بالكثير، ثم فجأة يقدم أوراقه دفعة واحدة في الفصل الأخير، دون ثمن أو تمهيد. فهو تناقض منطقي لمخرج لم يحسم طوال حكايته هل فيلمه هو فيلم تحقيق بوليسي بمسحة رعب، أم فيلم رعب بمسحة تحقيق بوليسي؟

يبدو Longlegs مثل كيان ظل عالقاً في سيره بساقيه الطويلتين بين جونرة الرعب والجريمة حتى تعثَّر في النهاية وسقط دون عرقلة خارجية.

يعد الرعب بقلق أبدي يهمس للمشاهدين بوجود قوى خارج نطاق تحكمنا قد تجعلنا يوماً نقتل من نحب رغماً عنا، بينما تعد جونرة الجريمة بلغز يمكننا بذكاء وبمدد من الشجاعة حله وبالتالي ردع الشرير فيه.

يحمل الرعب على عاتقه ثلثي الفيلم مع إفساد جانب المحقق وحل الجريمة كأثر جانبي، نحن ندرك أن الشيطان هو قاتلنا من البداية، ويحمل جانب المحقق على عاتقه الثلث الأخير بشرح بوليسي مباشر يختم النهايات العالقة، ويتأكد من فهمنا كمتلقين لكل ما مر بنا، وهو ما يفسد الرعب كأثر جانبي، كجونرة لا يقدم فيها الشر أبداً تفسيراً وتأويلاً مباشراً. وهو ما يجعله يحتفظ بسطوته حتى مع انتهاء المشاهدة.

نجح Longlegs في الوفاء بوعوده التسويقية، لكنه أخفق في الوفاء بوعوده الجمالية تجاه متلقيه، لا يعود ذلك فقط لساقين طويلتين عالقتين في عالمين مختلفين، إنما لأن الفيلم ينتمي بجذوره إلى عوالم صانعيه، أكثر ما ينتمي إلى قصته، فالفيلم يروي قصة مخرجه أوز بيركنز وبطله نيكولاس كيدج أضعاف ما يروي القصة الخيالية للسفاح المأمور من الشيطان Longlegs!

نورمان بيتس يفسد أكثر من نهاية

خلال مشاهدتي longlegs وخاصة الفصل الأخير الأكثر إحباطاً الذي يقدم تفسيراته كاملة بمباشرة فجة، تذكرت الطبيب النفسي الذي سلط عليه هيتشكوك الكاميرا في فيلمه الأيقوني psycho؛ ليظهر فجأة ويخبرنا بتفسيره النفسي لكل الجنون الذي ارتكبه البطل نورمان بيتس على مدار الأحداث.

كان هيتشكوك عالقاً في المعضلة نفسها، فيلم جريمة وتشويق بوليسي يكاد يتماس مع حواف الرعب (وهو لا يزال يحيا حتى الآن في المخيلة كفيلم رعب أكثر بكثير من كونه فيلم تشويق)، بوصول الغموض لذروته، يضطر هيتشكوك لاستدعاء الطب النفسي كأداة لتفسير مرض بيتس وانفصام شخصيته، وهوسه بأمه. في مباشرة بدت محبطة وأفسدت كثيراً من إيقاع الفيلم.

عندما تجهزت بالبحث لكتابة المقال فاجأتني معلومة أن مخرج فيلم Longlegs، أوز بيركنز، هو ابن الممثل الشهير أنثوني بيركنز، الذي قام بدور البطل نورمان بيتس في فيلم هيتشكوك الشهير.

لم يتأثر أوز بيركنز بالنهاية المباشرة في Psycho وحسب، إنما يقول في تصريحاته إن Longlegs ليس إلا مجازاً عملاقاً عن علاقته بأبيه.

عاش الممثل أنثوني بيركنز حياتين متناقضتين، حياة علنية كممثل أيقوني لواحد من أشهر أفلام السينما العالمية، زوج مخلص وأب لأطفاله، وحياة سرية كرجل مثلي لا يستطيع في زمنه الإعلان عن هويته، وإلا خسر نجوميته برمتها.

لا يعتمد فيلم Longlegs وحسب على صدمة الأطفال العابرة للأجيال، إنما يعتمد على العلاقة المريبة بين البطلة لي هاركر وأمها التي تخبرها طوال الوقت بتلاوة صلواتها، وتقمع مخاوف تحاول الابنة أن تبديها ولا تجد متسعاً لها أبداً، لا تتذكر لي لقاءَها بالشيطان في طفولتها إلا كذكرى مشوشة، لكنها توقن أن أمها تعرف الكثير عن هذا اللقاء.

مشهد من فيلم Longlegs

لذلك يخبرها Longlegs في غرفة الاستجواب أن حل اللغز لا يكون إلا بالعودة للجذور، لمنزلها القديم، وأن الاستجواب الحقيقي لا بد أن يكون لوالدتها. وهي رحلة لم تقُمْ بها لي هاركر وحسب، إنما أوز بيركنز نفسه!

لم يحيَ المخرج أوز بيركنز فقط في منزل يخفي أسراره بعناية وحسب، إنما كانت أمه Berry Berenson وزوجة النجم الشهير أنثوني بيركنز، هي مهندسة الأكاذيب التي أخفت مثلية زوجها بعناية عن عيون الجميع، وقادت الأسرة كلها لجحيم عيش حياتين متناقضتين، حتى أعلن أنثوني بيركنز في نهاية حياته إصابته بالإيدز، لينكشف ماضيه وميوله المخفاة بشكل مروع أمام ملايين ربطوا بوصم كامل بين المرض والمثلية.

يقول أوز بيركنز إن قصة عائلته لم تؤثر في فيلمه وحسب، إنما كانت بمثابة نجم الشمال، الذي يقود القصة برمتها، في فيلمه يحتاج الشيطان إلى تجنيد أمثال دايل كوبل، للإيعاز للآباء بقتل أبنائهم، أما في قصته الحقيقية لم يحتَج أبوه وأمه إلى الشيطان لخلق حياة أثقلت كاهل الأبناء، وهندسة قصتين مزدوجتين شطرتا حضور أفراد الأسرة للأبد بين كذبة وحقيقة. قام أبواه بكل ذلك عن عمد ودون قوى خارجية يمكن أن تبرر أفعالهما.

يبدو Longlegs برمته مجاز رعب تطهيري لمخرج يحاول إعادة تدوير حياته التي انقسمت بين لغز لم ينكشف، وهو ما ينتمي إلى جونرة المحققين، ورعب معيش بشكل أبدي بين هوية ترضي العالم، وحقيقة تختبئ في القبو مثل شيطان. لذلك يبدو فيلمه بساقين طويلتين عاثرتين مثلما سارت حياته بأكملها.

لم يكن Longlegs مشجباً لهموم فرد واحد، علق عليه المخرج هواجسه، إنما كان مشجباً لفردين، اتسع لأثقال بطل العمل نفسه، نيكولاس كيدج!

أن تختفي ليعود ظهورك

كل محب للسينما يعرف جيداً قصة نيكولاس كيدج الذي ينتمي لأسرة كوبولا الفنية، ويحمل جيناتها الإبداعية، والذي بدأ مسيرة قوية لم يعتمد فيها على أسرته واسمها، توجها بالأوسكار عام 1996 عن فيلمه Leaving Las Vegas. ليصفه الناقد روجر إيبرت بممثل جريء لا يعتمد على أحد، ولا يمكنك توقعه أبداً.

مشهد من فيلم Leaving Las Vegas

عاش كيدج حياة تمثيلية حافلة جعلته بطل التسعينيات في نظر أجيال أقدم، ولكنه حضر للأجيال الأحدث كعجوز مفلس، تورط في الظهور بعشرات الأفلام المتواضعة التي لا ترقى لمستواه، عجوز تورط في عادات إنفاق فاحشة جعلته هدفاً لإدارة الضرائب الأمريكية، يدين لها بملايين الدولارات، والتي فسرت قبوله المستسلم لتلك الأدوار لتسديد ديونه.

بمجرد ظهور كيدج على الشاشة تنقسم الآراء بين أجيال قديمة تؤمن بموهبته وأجيال أحدث تجعله مادة للسخرية.

في Longlegs يتفق كيدج مع المخرج بيركنز على الاختفاء الكامل، لن يظهر وجهه أبداً، لن يرى الجمهور، محبوه وكارهوه، إلا رجلاً ملطخاً بالأصباغ، وجهاً تعرض لألف عملية تجميل فاشلة، يقول كيدج إن جوهر شخصية Longlegs هي إنسان يحاول أن يبدو جميلاً في عين الشيطان، لكنه كلما حاول التزين، ازداد وجهه قبحاً.

نيكولاس كيدج من فيلم «Longlegs»

يبدو الأمر إشارة شعرية لمنعطف مسيرة كيدج التي حاول فيها إنقاذ رصيده البنكي بأدوار بطولية لم تزِد مسيرته إلا قبحاً حتى عجز الجمهور عن التعرف على ملامحه القديمة.

لم يبذل كيدج قصته الشخصية وحدها في تنفيذ Longlegs، إنما استعار أداءَه المبالغ في مشاهد كثيرة بالفيلم من ماضيه، مشاهد تتصاعد فيها نبرته لتبدو أنثوية، يصرخ لينادي أمه وأبيه بينما يقود سيارته بجنون، فتتشظى كينونته لطفل معذب عالق في جسد إنسان بالغ، يغني أنشودة عيد الميلاد الطفولية بحنان أمومي، فتخرج النغمات بأكثر الأصوات ترويعاً.

يؤكد كيدج أن حيرة الجمهور في طبيعة Longlegs المخنثة بين الذكورة والأنوثة منبعها هي استعارته تقلبات البطل المزاجية من أمه Joy Vogelsang التي عانت من الشيزوفرينيا، ورأى الابن تقلباتها المزاجية وتدهورها الكامل، لتبدو مثل سيدة تعرضت لاستحواذ شيطاني.

الشيطان يختم الحكاية بقبلة

قدم Longlegs نفسه كفيلم يحاول أن يكون كل شيء، أن ينال العلامة الكاملة في جونرتين تمتلكان قوانين متناقضة، أن يكون مشجباً ثقيلاً ووفياً لجذور صناعه النفسية وماضيهم المثقل، لا ينتهي الفيلم لخسارة كاملة، فعوار القصة ومساراتها ومنابرها المتعددة التي تحاول الظهور عبرها لا تخفى، لكن جمالية الإخراج في أشد لحظات الفيلم توتراً تشي بمخرج رعب واعد ربما يجد بصمته الأكثر ثقة في أعمال مقبلة.

أعاد نيكولاس كيدج تدوير قراراته الخاطئة ليخاطر بتقديم دور صغير لا يجاوز في مساحته ربع الفيلم (نفس مساحة دور أنثوني هوبكنز في صمت الحملان)، لكنه ربما البصمة الأكثر نضجاً وبروزاً في الفيلم بأكمله، والوعد الأكثر صدقاً في كل وعود التسويق.

ينتهي فيلم Longlegs بنيكولاس كيدج يجلس أمام الكاميرا، لا ينظر نظرة مرعبة مثل نظرة نورمان بيتس الشهيرة في Psycho، إنما يتراقص بجسده ويمنحنا قبلة، في إشارة لشيطان سادي يتلذذ بالغموض، شيطان لا يموت مثل البشر، ولا تحصره غرفة تحقيق. ورغم كل قرارات الفيلم الخاطئة، ومساراته المتناقضة، سينجو Longlegs كشخصية سينمائية من الابتذال والنسيان، وربما يعود في أجزاء أخرى أكثر نضجاً.

# أفلام أجنبية # سينما # سينما عالمية # فن # القاتل المأجور في مواجهة القاتل المتسلسل

بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
فيلم «The Apprentice»: الحقيقة وراء دونالد ترامب

فن